أحمد سالم
قال ابن البنا الحنبلي في كتابه: ((الخصال والعقود والأحوال والحدود))، (ص/107): ((وأصول الفقه ما تُبنى عليه مسائل الفقه؛ لأن بها يُتوصل إلى العلم لا بغيرها، ولا يُمكن النظر فيها إلا بعد الرياضة الطويلة بفروع الفقه)).
هذا النص العتيق النفيس يدلك على أمر شاعت الغفلة عنه في الكتابات المتعلقة بمناهج الأصوليين، وهو أن الذائع هو أن الحنابلة مندرجين في جملة المتكلمين الذين يوضعون في مقابل الأحناف من جهة أن المتكلمين يجردون النظر الأصولي بمعزل عن التفريع الفقهي وصنيع أئمة مذاهبهم، بعكس الأحناف الذين يستنبطون الأصول من صنيع أئمتهم في تأصيل الفروع الفقهية.
والحق أنه ما من مذهب من مذاهب الجمهور أحق من الحنابلة بهذا الوصف الذي وصفت به طريقة الأحناف؛ فإن الحنابلة يطيلون النظر في الفروع الفقهية وفي تصرفات وأجوبة الإمام أحمد ويجتهدون لتأسيس قواعدهم الأصولية بناء على هذا، وأظهر ما تجد من ذلك في كتاب القاضي أبي يعلى: ((العدة)).
وهذا لا ينفي وجود تحيز سابق لتقريرات المتكلمين يؤدي للانتقاء من كلام الإمام لدعم الأصل وليس العكس، لكن هذا لا يخلو منه حتى أصوليو الأحناف، وإنما المقصد هنا هو ظهور عمل الإمام أحمد كمقدمة لنظر أصوليي الحنابلة.
وقد قدمتُ بهذا كله لأدلك على إشكال عظيم في الدرس الأصولي الحنبلي المعاصر، ألا وهو الوقوع في أسر السلم الدراسي الشائع بلا مراعاة لخصوصية الحنابلة وبلا سعي لإحياء المدونة الحنبلية وإشاعة العناية بها.
فمتون وكتب الحنابلة إما مهجورة لصالح الورقات وجمع الجوامع والكوكب الساطع ومراقي السعود، وإما تشرح المدونة الأصولية الحنبلية بعبارة عامة أو مسلوخة من عبارة شراح الورقات وما يشبهها، فيخلو الشرح من حضور النص والعبارة المختصين بالمدونة الأصولية الحنبلية نصوصًا وعبارة.
ولا شك أن العلم رحم بين أهله على اختلاف مذاهبهم، وأن سريان المادة العلمية بين المذاهب المختلفة شائع مألوف خاصة سريان مادة الشافعية عند باقي المذاهب، بل أكبر من ذلك سريان مادة المعتمد لأبي الحسين البصري المعتزلي في كتابات الغزالي والرازي وأبي يعلى، وسريان مادة ابن الحاجب المالكي في أصول ابن مفلح، وكذا سريان مادة البرماوي الشافعي في شرح التحرير للمرداوي، لكن هذا الواقع العلمي التاريخي لا ينبغي أن يحول بيننا وبين إحياء المدونة الحنبلية سواء على مستوى المتون، أو على مستوى حضور عبارة الحنابلة ونصوصهم في شروح تلك المتون.
مقتطفات أخرى
ليس هذا المنشور للتفسير والشرح العام، ولا هو من المضنون به على غير أهله، إنما هو كلام أكتبه حتى لا أنساه فحسب، وقد كتبت أوله من قبل..
واحد من المظاهر العجيبة لغفلة الإنسان عن طبيعة الحياة ورسالة وجوده فيها، ومآل هذه الدنيا كلها إلى الآخرة، هو انغماسنا في رسالة الحضارة الحديثة، رسالة تخدير الألم، وفرط التداوي، وسرينة الإسعاف وعشرات الأسلاك ومريض مسن في مستشفى بارد يرى أهله إن أحس بهم لساعة أو ساعتين لمجرد أن أهله يريدون دفع مشاعر الذنب عنهم، بأنهم قد أحيوا حبيبهم لأطول فترة ممكنة، بتعبير كوبلر: إطالة أمد الحياة بدلًا من جعلها أكثر إنسانية.
هذه الرغبة المحمومة في إنكار الموت والفرار منه، في إنكار الألم والفرار منه، في عدم تقبل المحدودية والعجز= هي نفسها التي تقف خلف غفلتنا عن الآخرة وخوضنا لآلام الحياة التي لا نستطيع تجنبها أو تخديرها، ونحن فاقدين للأمل والمعنى؛ فقد اكتشفنا فجأة أننا أقل تحكمًا مما كنا نظن، وأن في الحياة ما لا دواء له، وصرنا عاجزين تمامًا عن اكتشاف الغرض والمعنى فيما له ألم سواء وجد له دواء أم لم يوجد، وفوق ذلك صرنا نشعر بالصدمة حين نكتشف أننا ويا للعجب: لسنا آلهة.
مرتبة الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، ومن مثل في نفسه محبوبه كأنه يراه= ازدادت محبته وعظم شوقه وبلغ توق نفسه لرؤية الحبيب مداه، ولأن الله يقول: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؛ فإن المحسنين يوم القيامة يجزون بما قال رسول الله: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تُضامون (لا تتزاحمون) في رؤيته.
وكان من دعاء رسول الله: ((وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك)).